التدريب في العهد النبوي


للدكتور / أسامة آل علي

عندما أشرقت شمس الإسلام في بلاد العرب ، كانت دورة حياة الأمم مستمرة ، في أكثر من مكان في العالم ، فهناك أمة في أوج قوتها، ثانية تراها في مرحلة الشيخوخة ، ثالثة تولد ورابعة بادت وانتهت .. وكانت الجزيرة العربية بموقعها المتوسط بين قارات العالم القديم وبمكانتها الدينية النابعة من مكة المكرمة ، كانت هذه الجزيرة نقطة اتصال حضاري بين الأمم ..

وقد انطبق عليها قانون الدورة الحضارية التي ذكرتها سابقا ، فشهدت قيام حضارات واندثارها مثل حضارة سبأ في اليمن ، وحضارة عاد وثمود وغيرها .. كما شهدت ولادة الحضارة الخالدة في المدينة المنورة وهي حضارة الإسلام العالمي الذي قدم مبادئه الشافية التي تنبه الجميع إلى ضرورة تكامل الروح مع المادة والعقل ، وإلى ضرورة العيش بمفاهيم عالمية إنسانية، تتيح للإنسان عرض إبداعاته وأفكاره خدمة لبني البشر، وفق معايير المجتمع الحضاري المسلم، الذي يقبل الآخر بحسناته ، ويرفض منه ما يضر من فكر وسلوك.
ومن المجالات التي تظهر تنافس الأمم فيما بينها مجال التدريب، الذي يسفر عن قدرات الأفراد الهائلة التي تظهر في البنيان والصناعة والتنظيم والإدارة والقدرة على كسب ثقة الشعوب ..
نعم كان التدريب موضع اهتمام القادة دائما وقد عرفنا في السيرة النبوية هذا الاهتمام من خلال ما يلي

: النبي صلى الله عليه وسلم متدربا1:

أ – التدريب الرباني : فقد ورد أنه قال : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )

وهذا التأديب تدريب على السلوك الأجمل ، فنال بهذا التأديب أوسمة إلهية مثل : على خلق عظيم ، أسوة حسنة ، أسرى بعبده ، النبي، رسول الله … كما نال من قومه أوسمة رائعة مثل : الصادق الأمين …

ب- التدريب القيادي : إن مجالسة زعماء مكة ، بحضور عبد المطلب والتعرف على أساليب الحوار وكيفية إدارة الأمور في مجالس الكبار ، تدريب ميداني على ممارسة الإدارة والقيادة وهذا ما كان له صلى الله عليه وسلم منذ صغره . ولقد أسفر عن روعة الخطة الإنقاذية التي عرضها عليهم لحظة اختلافهم حول مسألة الحجر الأسود .

ج- التدريب على الصبر والرعاية : كما في ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم لرعي الغنم لبعض أهل مكة مقابل أجرة ، وهو عمل وتدريب قيل أنه يغرس في النفس حرصا على الأمانات ، ورغبة في النجاح …

د- التدريب على فنون التجارة : إن مرافقته لعمه أبي طالب وهو صغير في رحلته التجارية إلى الشام تتيح له فترة طويلة يتلقى فيها معلومات عن السلع والأقوام ومنتجاتهم وكيفية التبادل التجاري وفنون الاتصال والتسويق ، فلما أخذ ذلك كله من التدريب مارسه عملا كموظف في مال السيدة خديجة رضي الله عنها ، فأبدع ربحا وسلوكا وثقة ، إنه التدريب الذي لو ظن البعض أنه غير ضروري لخاتم الأنبياء، فإن الممارسة الواضحة تؤكد أهميته للجميع ، كيف لا وهذا النبي الكريم ينضم إليه برغبة وحب وإتقان.

2– النبي عليه الصلاة والسلام مدربا

لا كأي مدرب فهو لا يرتجي أجره سوى من الله تعالى ، وهو مدرب متخصص في جميع المجالات التنموية للإنسان وتدريب القادة العظام، وإدارة الصراع بين الحق والباطل على أسس الرحمة والعدالة

فمن هذا المدرب الذي صنع جيلا قرآنيا فريدا ؟؟

وما هي تلك المهارة الفائقة والدرجة السامية في التدريب التي كان يمتلكها فأثمرت أعلى درجات الجودة وحققت الاحتياج بأبهى صورة في عصره وما بعده من العصور ؟ هل لنا أن نتحدث عن التدريب بالقدوة الصادقة المثالية العملية التي جمعت مكارم الأخلاق وقدمتها للمتدربين لينهل كل منهم من بعض جوانبها ؟ ما أجمل نتاجات تدريبه في الصدق كان الصديق وفي العدالة تدرب الفاروق وفي الحلم والحياء كان ذو النورين وفي العلم والقضاء كان أبو الحسن وفي الزهد جاءنا أبو ذر الغفاري وفي الصبر عمار وفي الإتباع كان ابن عمر وفي تدريب النساء كانت أمهات المؤمنين ونساء بيت النبوة.

تدريب كانت البشرية تحتاجه ولازالت، إنه التدريب الفريد في التنمية وقيادة البشرية .. مهارات تدريبية قدمها لأصحابه شملت المعلومة والاتجاه الجديد وتحفيز المتلقي على تقبل الفكرة والإيمان بها .. قدم المعلومة ممارسة وأداء لا ضعف فيه ..

كثيرة هي المجالات التي أتقن النبي صلى الله عليه وسلم تدريب أمته عليها ، خذ مثلا ( فض النزاعات كما في وضع الحجر الأسود – التربية المتكاملة (في شخصية أبنائه والإمام علي ) – الإدارة والتخطيط – رعاية حقوق الخصم )

إن هذه المجالات قد مارس فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمليات إيصال المفاهيم وتهيئة النفوس لتطبقها ثم محاكاة المدرب للعمل بمثل كفاءته ، لقد كان على المتدربين أن يتقبلوا المفاهيم وإن كانت جديدة لم يألفوها ، وكانت عمليات تغيير الاتجاهات نحو هذه المفاهيم الجديدة تتم بسلاسة جميلة ، فالمتدربين على ثقة أكيدة بجودة هذا الدين ، وتراهم إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرا فعلوا مثله أو فعلوا ما يؤكده.

ففي رعاية حق الخصم :.. أشرقت أخلاقه في جوانب كثيرة منها الجانب المالي .. فقد كان الأمين الذي حفظت قريش أموالها عنده ، فأداها لهم مع أنهم أخرجوه منها صلى الله عليه وسلم ، ولقد درب الصحابي علي بن أبي طالب بالممارسة الفعلية على هذا الحفظ ، لتكون هذه صفة جميع الصحابة مع خصومهم ، فعلي مثلا يحفظ لمخالفيه في الحكم حقوقهم جميعها ، ويرفض أن يجردهم المال أو حق الحياة أو الكرامة بل هو يقول عن الخوارج : إخواننا بغوا علينا ، من الكفر فروا .. كل هذا تدريب من ؟ أنه تدريب صانع أبطال الإسلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

والتدريب على فنون الإقناع تراه في غاية الإقناع مع الكافر والمستفتي تمثلت آثارها واضحة في شخصية جعفر المهاجر بدينه إلى الحبشة ، وفي كل صحابي رضي الله عنهم أجمعين تجد ملمحا تدريبيا تأثر مباشرة بالتعاليم والممارسات ومنظومة متابعة التغير السلوكي .

وفي الجانب القيادي .. تراه يمارس حل مشكلة الحجر الأسود التي كادت تدخل زعماء قريش في نزاع كبير . وتراه يدرب الأمة على التسامح والتعايش بين المختلفين مسلمين وغير مسلمين عربا وغير عرب .

وحتى لا أطيل، فلننظر في الآثار التدريبية التي ظهرت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فحكمة وشجاعة وانتصار القلة المؤمنة ، لم يكن ذلك نتيجة تعاليم تليت فقط ، وإنما نتيجة مهارات اكتسبها المتدربون ( بإيمان ) وحب لتنفيذ كل التفاصيل فنحن إذن نتحدث عن أمر يزيد عن التعليم أو التوجيه إنه التدريب على قيادة البشرية ببرامج تطورها على أسس إيمانية .

نعم إننا أمام مدرب أعطى كل حياته لمن أراد التدرب ، وهو لم يطلب أجرا على أية مهارة تدريبية قدمها بل كما في القرآن ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ، ولذا علينا أن نتخذه المثل الأعلى في التدريب فنستشعر إخلاصه وحبه لمن أقبل عليه ، وإتاحته كل وقته لهم ، لأنه يريد للبشرية خيري الدنيا والآخرة ، لقد قدم كل ساعات يومه ليدربهم .. ليدرب أمة كانت خير أمة أخرجت للناس .. فوقته قليل لكن همته عالية فأنتجت وبارك الله له في نتائجها .

3- النبي عليه الصلاة والسلام مديرا للتدريب :

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مجرد معلم يقدم المعلومات ، ولا هو فقط مدرب متخصص بنوع معين فقط ، بل كان شموليا ، ومنتجا للمدربين فهو يوجه مصعب بن عمير المعد والمؤهل في مدرسة النبوة إلى المدينة معلما ومحاورا، وهو بعد بدر ينظم عمليات محو الأمية ولو كان المدرب على مهارات القراءة والكتابة غير مسلم ، وهو يشرف في المسجد على فتية يتدربون على فنون الإعداد ، وهو في مؤتة يرسم للقادة طريقة في تسلسلهم وينفذونها ، ويرعى بتشجيعه التدريب على الرماية ، وهو ينظم في إدارته أعمال من دربهم فأتقنوا ، فابن مسعود وآبي من أهم من يؤخذ عنهم القرآن ، ورفيدة الأسلمية كانت ممرضة ولها في المسجد خيمة تمرض الصحابة وتعلم من شاء على التمريض ، لقد كان مجتمعا يعج بالنشاط ويشرف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان مديرا للدولة فإنه سيولي كل دائرة اهتماما للتطوير والتقدم ، ونؤكد على أن السيرة نقلت لنا جوانب كثيرة من هدايته إلا أن الجانب الفكري والعقائدي والإيماني والخلقي كان أهم هذه الجوانب لما لها من أهمية قصوى في تنمية الإنسان في كل زمن . صلى الله عليه وسلم ، حدد الاحتياج لمدربيه ، وحدد لهم أيضا احتياجات من سيلاقونهم ، فها هي جزيرة العرب تأتي لتدخل في دين الله أفواجا ، تحتاج من يوصل الإسلام عمليا وسلوكا وعلما وحضارة .. فكان كبار وفقهاء الصحابة مدربين ومعلمين أفادوا من هدي المصطفى ونشروا المحبة في كل مكان وصلوه . فالمسلم حيث كان يضع نصب عينيه تنمية البشرية وإسعادها ويسارع في تقديم الحلول الكثيرة للإنسانية .. وهو لا يحرمها من مهاراته المفيدة بل يبادر مستلهما من النبي يوسف عليه السلام قوله ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) .. إلى كل زملائي المدربين هلموا إلى هذه العبرة وهذا المغزى

Leave a Reply