سـر الإبداع والنجاح فـي جوجل

في 1998 كانت جوجل مجرد فكرة تراود اثنين من طلاب الدكتوراة بجامعة ستانفورد هما لاري بيج وسيرجي برين لإنشاء موقع علي الويب، والآن وبعد 13 سنة فقط أصبحت جوجل شركة مبدعة متوجة علي عرش الإنترنت بلا منازع، تحقق حجم أعمال ودخلا سنويا بمليارات الدولارات، يعادل ما تحققه عشرات الدول الضاربة في عمق التاريخ، وقد تميزت هذه الرحلة القصيرة زمنيا بأنها كانت ولا تزال “هادرة” إبداعيا بصورة استثنائية وغير مسبوقة، مما جعلها تتجاوز كونها تجربة شركة إلي خبرة إنسانية عامة في البحث والتطوير والابداع والقفز بلا هوادة صوب المستقبل، والأسبوع الماضي كشفت جوجل في لقاء بمدينة دبي شهده أكثر من مائة مدير ومسئول تنفيذي بالمنطقة العربية عن جانب من السر الذي جعلها تبدع علي هذا النحو الاستثنائي وغير المسبوق. فماذا قالت عن تجربتها الإبداعية؟
خلال اللقاء كان محمد جودت ـ المصري الجنسية والمدير العام لأعمال جوجل في الأسواق الناشئة في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا ـ مبدعا وهو يعرض سر الإبداع في جوجل ويقدمه للحاضرين في تسع نقاط تمثل في مجملها ـ حسب قوله ـ ثقافة عمل وتوجهات قابلة للاكتساب والتنفيذ، وكان حريصا علي أن يؤكد أن حالة الضعف الإبداعي العربي في العلوم والتكنولوجيا ليست ناجمة عن أسباب “جينية” ترتبط بتكوين الإنسان العربي وقدراته العقلية، بل لكونها خبرات لم ننجح في اكتشافها وتنميتها واكتسابها، ويمكن تلخيص قواعد الإبداع التسعة في جوجل كما أوردها جودت كالتالي:
1ـ الإبداع المتواصل وليس الكمال النهائي: تميل معظم الشركات في صناعة تكنولوجيا المعلومات وغيرها إلي تبني طريقة في الإبداع تقوم علي وضع خطة أو استراتيجية لمنتج ما والعمل علي تطويره خلال فترة طويلة من الزمن بمعرفة متخصصين وخبراء، وعدم طرحه للمستخدمين إلا بعد أن يصل لما تتصور الشركة أنه “الاكتمال النهائي”، وتقدمه لمستخدميه أو مستهلكيه كقلعة كاملة البناء، وجوجل لا تأخذ بهذه الطريقة في الإبداع، لأنها تري أنه يمكن بواسطتها الوصول إلي شيء يتصور منتجوه أنه مثالي، ويقدمونه للعالم مهللين مستبشرين، لكن المشكلة أن الشركة إذا ما أخطأت التقدير يكون الأمر كارثيا، فكل الوقت الذي أنفق بالسنوات ومئات الناس الذين عملوا يكونون قد قدموا للسوق شيئا لا تطلبه.
أما جوجل فتري أنه من الأفضل أن تعمل لتصل إلي شيء قابل لأن يعمل ويصبح قيد التشغيل في نهاية اليوم، لكنه ليس كاملا، بل قابل لأن يتحسن ويجري تجويده في اليوم التالي بناء علي خبرة التشغيل وردود المستخدمين، ولذلك تطلق جوجل منتجاتها وخدماتها وإبداعاتها مبكرا للغاية، وغالبا ما تكون استراتيجية أو خطة وليس منتجا نهائيا، وتضعها في معامل جوجل التي يمكن من خلالها طرح الإبداع للتشغيل التجريبي بمشاركة قطاع من المستخدمين، وعندها تعيد جوجل وتتعلم ما الذي تريده السوق من هذا الإبداع وتعمل علي أن تجعله عظيما، وفائدة هذه الطريقة أن القائم علي الإبداع والإنتاج لا يذهب بعيدا بصورة كبيرة عما تريده أو تحتاجه السوق، لأن التحسين والتعلم المستمر والإبداع الذي لا ينقطع بناء علي استجابات المستخدمين تجعل السوق تعيد الشركة إليها وإلي ما تحتاجه إذا ما ابتعدت.
2ـ توظيف الأفضل: عند اختيار العناصر الجديدة التزمت جوجل منذ بدايتها باختيار وتعيين أفضل العناصر وأكثرها قدرة وتميزا في الإبداع والبحث والإضافة وإنتاج القيمة العالية، ثم تقديم مقابل يتساوي مع قيمة الإبداع، وهذه السياسة متبعة في جوجل منذ أن كانت عشرين شخصا فقط عند بدايتها وحتي الآن بعد أن أصبحت تضم ألوفا من الموظفين حول العالم، وهنا تري جوجل أنه لكي تنجح يجب أن تنجز أشياء عظيمة للعالم، وإذا نجحت فلا يجب علي الإطلاق أن تساوم علي قيمك ومبادئك ومعاييرك في اختيار أفضل العناصر واعلاها قدرة علي الإبداع، وهنا داعب جودت الحاضرين قائلا: خضعت لـ16 مقابلة حتي تم قبولي موظفا في جوجل، وقال: جوجل دائمة البحث عن من لديهم فكرة إبداعية وقادرون علي تجهيزها وتنفيذها وإطلاقها خلال فترة وجيزة.
3ـ الأفكار تأتي من كل مكان: تري جوجل أنه لا مصدر محدد أو وحيد للأفكار، لأن الأفكار الإبداعية يمكن أن تأتي من أي مكان ومن أي سن وفي أي وقت، ولذلك هي منفتحة علي جميع الجنسيات والخبرات والدول، وداخليا تطبق ذلك علي جميع موظفيها، وتعتبر الجميع بدون استثناء مصدرا للإبداع وللأفكار، وهنا علق جودت قائلا: لا علاقة للأفكار والإبداع بالجينات والصفات الوراثية، فالكل يمكن أن يصبح مصدرا للإبداع.
4ـ المشاركة في المعلومات: لا أحد يعمل منفردا أو دون أن يعلم الآخرون بما يفعله، فكل المعلومات حول ما يجري في الشركة متاحة للجميع، وباستطاعة أي شخص يعمل في جوجل أن يلقي نظرة علي ما يحدث في الشركة ككل في أي وقت، فكل يوم اثنين يكتب جميع الموظفين رسائل إلكترونية بها خمس إلي سبع نقاط مختصرة حول ما قاموا به خلال الأسبوع الماضي، وتؤخذ كل هذه الرسائل وتوضع في صفحة ضخمة ويتم فهرستها، مما يسمح للجميع بمشاركة كل المعلومات حول الشركة ويقلل من التكرارية في الجهد.
5ـ السعي لتحقيق الأحلام لا قتلها: بموجب هذه القاعدة تري جوجل أن أي فكرة أو أي مشروع هو أمر جيد بدرجة تكفي لجعله يدخل معامل جوجل ويستحق أن يأخذ فرصة للبحث والسعي لتحقيقه، فالأفكار والأحلام جديرة بأن نسعي لتحقيقها لا قتلها أو وأدها ورفضها، فربما جاءت أفضل النتائج من الأفكار والإبداعات التي تبدو غريبة مستحيلة أو لا تلبي حاجة السوق.
6- السرعة: وهذه قاعدة مهمة للإبداع لأنه بات من الضروري أن يتم التفكير والعمل والانجاز والإبداع والوصول بناتج الإبداع بسرعة للناس، لأن العالم يتغير كل لحظة ومليء بالكثير من الذين يحاولون تقديم إبداع منافس، لذلك لا يمكنك أن تبدع ببطء بينما العالم يتحرك حولك بسرعة كبيرة.
7ـ البيانات وليس الانطباعات: تري جوجل أنه إذا كنت تريد بناء بيئة إبداعية حقيقية، فلابد أن تسود لديك بيئة اكاديمية للغاية تعتمد في كل شيء علي البيانات والمعلومات لا الانطباعات أو التقديرات والتصورات النظرية أو الشخصية، حتي التصميم الذي يراه الكثيرون أمرا ذاتيا يخضع لجماليات تحددها الأذواق، فهناك مصمم يحب اللون الاخضر وآخر يحب الارجواني أو البنفسجي، ولذلك بعض الشركات تنظر الي التصميم كفن، لكن جوجل تنظر إليه كعلم، وفي حالة اختيار الالوان مثلا لا يهم اللون المفضل لدي المصمم، ولكن لابد أن يتحول ذلك إلي بيانات يتم علي اساسها اتخاذ قرارات، وفي حالة وجود تصميمين بلونين مختلفين يتخذ القرار بعد اجراء 1% من الاختبارات علي 1% من الجمهور لمدة اسبوعين مثلا، لتعرف اي من التصميمين هو الافضل والاكبر قيمة في مقابل الآخر، وتتخذ قرارا بناء علي البيانات، وبسبب هذه القاعدة عادة ما يكون هناك ما يتراوح بين 50 و100 تجربة تجري في جوجل طوال الوقت بشأن كل شيء من الرقم الافتراضي للنتائج الي وضع خطوط تحت الروابط في صفحة نتيجة البحث الي الحجم الذي يجب ان يبدو عليه السهم.
8ـ المستخدم أولا وثانيا وثالثا: حينما تبدع اجعل هدفك الأول أن تحقق احتياجات ورغبات المستخدم أو المستهلك النهائي للإبداع وليس الحصول علي عائدات وأموال، وتعتقد جوجل أنها لو ركزت علي المستخدمين فإن الأموال ستأتي، لأنه لو كان الابداع ناجحا في تلبية احتياجات المستخدم فسيكون هناك كثيرين يدفعون من أجل استخدامه أو يقبلون عليه بصورة تغري المعلنين برعاية الموقع الذي يقدم هذا الابداع، وهنا تأتي الأموال وهو ما حدث ويحدث بالفعل.
9ـ إبداع حر بلا قيود: يري الكثيرون أن المهندسين والمبتكرين ينجحون ويلمعون حينما يعملون وفق قواعد واضحة، أما جوجل فتري أن إطلاق فرصة للإبداع الحر بلا قيود أو قواعد علي الإطلاق أمر ضروري وحيوي، لذلك فمنذ عام 2000 وهي تمنح كل موظف من موظفيها 20% من وقته أو ساعات عمله ليجلس ويفكر وينطلق مع نفسه ويتخيل ويبدع أي شيء، سواء كان له علاقة بعمله ووظيفته الأساسية داخل الشركة أم لا، فقط عليه أن يطلق لابداعاته العنان ويفعل ما يشاء خلال فترة الـ20% من وقته، ويبلغ الشركة بما فكر فيه أو حاول إبداعه، مهما كان فيه من شطط أو خيال أو بعد عن عمله، وتقول جوجل أنها تثق في أن مهندسيها والعاملين لديها الذين تم انتقاؤهم بعناية سوف يصلون إلي أشياء عالية القيمة ومثيرة للاهتمام، وهو ما حدث بالفعل، حيث خرج اثنان من منتجات جوجل الشهيرة وهما جوجل سكاي وجوجل نيوز من افكار تولدت لدي اثنين من مهندسيها وهم يهيمون بحرية ويجمحون بأفكارهم خلال وقت الـ20 المخصص للابداع والتفكير الحر.
كانت هذه خلاصة لأسرار الابداع والنجاح في جوجل كما عرضها احد مديريها، وحرصت علي أن أنقلها بصورة مباشرة ودون غرق في التفاصيل، لأن منطقتنا العربية ومن بينها مصر تعتبر من المناطق “القاحلة إبداعيا” بامتياز مقارنة بمناطق وأقاليم مختلفة بالعالم، وآمل أن يساعد العرض السابق لبعض أسرار الإبداع المتدفق في هذه الشركة في التوصل إلي ما يعيننا علي تحويل أرضنا القاحلة ابداعيا إلي شيء قابل للخضرة والنماء.

Leave a Reply